في مطلع القرن العشرين، وُلد طفل في فيينا يدعى بيتر فرديناند دراكر، لم يكن يعلم أحد حينها أن هذا الطفل سيصبح لاحقًا واحدًا من أكثر العقول تأثيرًا في تاريخ الإدارة الحديثة، بل ومن أوائل من وضعوا البذور الأولى لما نسميه اليوم "ريادة الأعمال" بمعناها العميق المتجدد. لكن دراكر لم يكن مديرًا ولا رائد أعمال كما نعرفهم، بل كان فيلسوفًا عمليًا، ومفكرًا يرى العالم من عدسة إنسانية قبل أن تكون تجارية.
ولد دراكر في عام 1909 في أسرة نمساوية تهتم بالثقافة والفكر، فكان منزلهم مليئًا بالنقاشات الأدبية والسياسية. هذه البيئة الفكرية صنعت شخصيته التأملية، وعلّمت عقله أن يرى ما وراء الأرقام، وأن يسأل دومًا: "لماذا نفعل ما نفعله؟" بدلًا من "كيف نفعله؟". وقد لازم هذا السؤال منهجه طوال حياته، وجعل منه ناقدًا رصينًا للمألوف، وسابقًا بخطوات لعصره في رؤيته للتغيير والعمل والمؤسسات.
في الوقت الذي كانت فيه معظم الدراسات الإدارية تنصبّ على تنظيم العمل وتقسيمه، ظهرت أفكار دراكر وكأنها صرخة في برية الإدارة الجامدة. لقد آمن أن المؤسسات ليست آلات، بل كائنات حية يقودها بشر، ويتعاملون مع بشر، ويصنعون أثرًا في بشر. لذلك، لم يُغرم بالأرقام والنماذج وحدها، بل ركّز على القيم والمعنى والمسؤولية.
أول كتبه الكبرى، "The Concept of the Corporation"، كان دراسة تحليلية لشركة "جنرال موتورز"، لكنه لم يكن مجرد توثيق. بل فتح فيه أبوابًا جديدة للتفكير في التنظيم، والثقافة الداخلية، والعلاقة بين الفرد والنظام. هذا الكتاب لم يرضَ عنه بعض المديرين في الشركة، لكنه لفت أنظار المفكرين في أنحاء العالم. دراكر لم يكن يكتب ليمتدح، بل ليفهم، وليساعد المؤسسات أن تصبح أفضل لنفسها ولمجتمعها.
منذ تلك اللحظة، لم يتوقف عن طرح الأسئلة الكبرى: ما وظيفة المؤسسة؟ ما هو النجاح الحقيقي؟ هل الربح غاية أم وسيلة؟ وكان جوابه مختلفًا دومًا عن السائد. قال مرة: "الغاية الأساسية للمؤسسة هي خلق عميل، لا تحقيق الربح فقط". عبارة صادمة في وقتها، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى إحدى الركائز الفكرية في التسويق الحديث.
دراكر لم يُفكّر بمنطق السوق وحده، بل بمنطق الإنسان داخل السوق. لهذا فإن فكره ظلّ حيًا، لأنه لم يتصل بزمن محدد، بل اتصل بجوهر الأشياء. كان يرى أن المستقبل لا يُتوقع، بل يُصنع، وأن الطريقة الوحيدة لمواجهته ليست في الدفاع، بل في الابتكار.
ربما كان أعظم ما فعله بيتر دراكر هو تحويل الإدارة من وظيفة ميكانيكية إلى فن إنساني. لقد أعاد تعريف القائد بأنه من يُلهم، لا من يُسيطر، والمُدير بأنه من يُنظّم الفوضى إلى فرصة، لا من يُدوّن التقارير فقط. جعل من الإدارة مسؤولية أخلاقية، لا تقنية باردة.
واليوم، حين نرى شركات تغير العالم، أو مشاريع ناشئة تتحدى الكبار، أو قادة يغيرون الثقافة من الداخل، يمكننا أن نلمس آثار فكره حاضرة في كل تفصيل: من أهمية الرؤية، إلى التركيز على الإنسان، إلى خلق بيئة تسمح للموهبة أن تتنفس.
إن دراكر لم يكن رجلًا يعيش في الماضي، بل كان – وما يزال – رجل المستقبل. مفكرًا يربط بين المعنى والفعالية، بين القيم والنتائج، بين الإنسان والنظام. لقد سبق عصره لأن عينيه كانتا على الأفق، لا على الميزانية فقط.
وفي زمن تتسارع فيه التحولات، نحتاج أن نعود إلى هذا النوع من المفكرين. لا لنحفظ كلماتهم، بل لنعيش روحهم. لأن دراكر، ببساطة، لم يكن يدعونا لاتباعه، بل لتجاوز ما وصل إليه… وهذه أعظم دعوة يمكن أن يقدّمها مفكر لأي جيل قادم.
عندما نسمع اليوم مصطلح "ريادة الأعمال"، غالبًا ما يتبادر إلى أذهاننا صورة شاب طموح يجلس أمام حاسوبه في مقهى، يخطط لمشروع ناشئ سيُغير العالم. لكن بيتر دراكر، منذ عقود طويلة، رسم صورة مختلفة تمامًا لهذا المفهوم، صورة أعمق، أكثر نضجًا، وأكثر ارتباطًا بالواقع الاجتماعي والاقتصادي. لقد حرر "ريادة الأعمال" من قيد المغامرة الفردية، وألبسها ثوبًا فكريًا متزنًا، وربطها بمفهوم الابتكار المنهجي الذي يمكن أن يُمارَس داخل أي مؤسسة، مهما كان عمرها أو حجمها.
في كتابه الشهير "Innovation and Entrepreneurship"، طرح دراكر تصوره الجريء: أن الريادة ليست موهبة فطرية كما كان يُعتقد، بل هي سلوك يمكن تعلّمه، وممارسة يمكن تنظيمها. هذه الفكرة وحدها كانت كفيلة بتغيير المسار الفكري في كليات إدارة الأعمال، وفي أذهان القادة وصناع القرار.
يرى دراكر أن رائد الأعمال لا يُقاس بشجاعته وحدها، بل بقدرته على رؤية الفرص حيث يراها الآخرون مشكلات أو تهديدات. فالفرصة لا تأتي ضربة حظ، بل تأتي نتيجة مراقبة ذكية، وتحليل دقيق، وقدرة على الربط بين الأحداث، والتصرف بناءً على معرفة لا على تخمين.
من هنا نشأ ما يسميه بـ"الابتكار المنظم"، أي استخدام التفكير المنهجي لاستكشاف فرص جديدة للنمو داخل السوق، بناء على مؤشرات واضحة لا حدس عابر. ووفقًا لدراكر، هناك سبعة مصادر رئيسية للابتكار، منها التغييرات في السوق، والاحتياجات غير المشبعة، أو حتى النجاحات التي لم تُفهم جيدًا.
لك أن تتخيل مدى ثورية هذه الرؤية في زمن كانت تُختزل فيه الريادة في مجرد بدء مشروع جديد. دراكر يقول: لا، يمكنك أن تكون رائدًا داخل شركة عمرها مئة عام. يمكنك أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا في مؤسسة حكومية، أو في منظمة غير ربحية. الريادة ليست مرتبطة بالمكان، بل بالعقلية.
لقد فتح هذا المفهوم الباب واسعًا أمام ما بات يُعرف لاحقًا بـ**"الريادة الداخلية" (Intrapreneurship)**، والتي سمحت لموظفين عاديين داخل شركات كبرى بأن يصبحوا صنّاع قرار، ومبتكرين، وروادًا ضمن إطار عملهم. هذا بالضبط ما جعل شركات مثل Google تمنح موظفيها "20% من وقت العمل" للعمل على أفكارهم الخاصة، والتي أخرجت لنا لاحقًا Gmail وGoogle Maps وغيرهما.
ولم يكتفِ دراكر بتحديد شكل الريادة، بل ربطها أيضًا بمسؤولية اجتماعية عميقة. فهو لم يؤمن بالريادة لأجل الربح فقط، بل رأى فيها وسيلة لحل مشكلات المجتمع، وسد فجوات السوق، وتحقيق تنمية حقيقية. وبذلك، كان من أوائل من زرعوا مفهوم "ريادة الأعمال الاجتماعية"، التي لم تكن بعد قد وجدت طريقها إلى المعاجم الأكاديمية.
ربما أجمل ما في رؤية دراكر للريادة هو أنها ليست صفة نخبوية، بل دعوة شاملة. لقد آمن أن كل شخص يملك ما يؤهله ليكون رائدًا، شرط أن يملك الفضول، والقدرة على الملاحظة، والاستعداد للتجربة، والتعلم من الفشل. لهذا قال: "أهم ما يميز رائد الأعمال هو قدرته على تحويل الفكرة إلى فعل، ثم إلى نتيجة".
وإذا تأملنا في حال ريادة الأعمال اليوم، سنجد أن كثيرًا من التحديات التي نواجهها – مثل الاستدامة، أو توجيه الريادة نحو قضايا حقيقية – قد أشار إليها دراكر قبل عقود. لقد حذر من تضخيم صورة الريادة كحالة من "النجاح السريع"، أو كوسيلة للهروب من الوظيفة. بالنسبة له، الريادة ليست هروبًا من الواقع، بل دخولٌ عميق إليه بغرض تغييره.
وفي هذا الإطار، أكّد على أن ريادة الأعمال لا تنجح في بيئة لا تتسامح مع الفشل، ولا تحتضن التجريب، ولا ترى القيمة في الخطأ التعليمي. لذا، من أولويات أي مؤسسة تسعى لتكون "ريادية"، أن تخلق مناخًا يسمح بالأفكار المجنونة، وتفسح مجالًا للفشل الآمن، وتكافؤ المحاولة لا فقط النجاح.
ما فعله دراكر في هذا الباب أنه جعلنا نرى الريادة كقوة تغيير داخلية، لا مجرد منتج نهائي أو قصة نجاح تُروى. لقد جعلنا نفهم أنها تتعلق بالتحوّل، بالرؤية، بالاستجابة، وبقدرة الإنسان على ترك بصمة في مكانٍ ما، حتى إن لم يكن في أول الصفوف.
وبهذه النظرة الإنسانية والواقعية في آنٍ معًا، وضع بيتر دراكر الأساس الذي تقوم عليه آلاف الشركات الناشئة اليوم، وعشرات البرامج التعليمية، ومئات السياسات الحكومية التي تسعى لتمكين الريادة كمحرك للمجتمع، لا فقط للاقتصاد.
في حياة بيتر دراكر لم تكن الجامعات مجرد مقاعد للتدريس، بل كانت ميادين للتفكير، وفضاءات تُختبر فيها الأفكار قبل أن تتسرب إلى الأسواق والشركات. فقد كان يرى أن التعليم ليس فقط عملية نقل معرفة، بل هو مسؤولية في تشكيل طريقة التفكير، وصقل الإرادة، وتحفيز القادة الجدد. ولهذا، ترك أثرًا عميقًا ليس فقط في مناهج كليات الإدارة، بل في فلسفة التعليم نفسها.
منذ بداياته كمحاضر وكاتب، أدرك دراكر أن الإدارة لا يمكن اختزالها في قواعد ميكانيكية أو نصوص نظرية جامدة، بل هي حرفة إنسانية، تتطلب فهمًا للنفس البشرية، وتقديرًا للسياق، وبصيرة تربط بين القيم والممارسة. ولهذا رفض مرارًا أن تتحول كليات الإدارة إلى مصانع للشهادات، أو أماكن لتلقين "كيف تُدار الشركة"، بدل أن تكون منصات لطرح السؤال الأكبر: "لماذا نُدير أصلاً؟ ولأي هدف؟"
إنعكاسًا لفكره، وكنقطة ارتكاز لتأثيره، تأسست في كاليفورنيا "مدرسة دراكر للإدارة" – Claremont Graduate University – والتي لم تكن مجرد تكريم، بل امتداد حيّ لفلسفته في التعليم. لقد صُمّمت مناهجها لتدريب قادة قادرين على التفكير النقدي، والابتكار المسؤول، لا مجرد تنفيذ الاستراتيجيات الجاهزة.
وفي قلب فلسفة هذه المدرسة ثلاث ركائز جوهرية:
الإنسان في مركز المؤسسة.
لا تُدرَّس الإدارة هنا كفن إدارة الموارد فحسب، بل كفنّ فهم الناس، تحفيزهم، توجيههم، وتمكينهم.
القيم والنتائج لا تتناقضان.
تعلم الطلاب كيف يقيسون النجاح لا فقط بالأرباح، بل بالأثر، بالتأثير، بالإرث الذي تتركه المؤسسة في مجتمعها.
لتعلم عبر التطبيق والممارسة.
لا يُكتفى بالنظريات، بل يتم إشراك الطلاب في مشاريع فعلية، مع منظمات ومؤسسات قائمة، لتطوير حلول واقعية، مبتكرة، ومؤثرة.
امتدت بصمة دراكر إلى كبرى كليات الأعمال مثل: هارفارد، ستانفورد، MIT، أوكسفورد، وكامبردج. وقد تجلى تأثيره في عدة مظاهر، أبرزها:
التحول من التعليم الوصفي إلى التعليم التحليلي.
لم يعد المطلوب من الطالب حفظ المفاهيم، بل التفكير بها، نقدها، وربطها بواقع ديناميكي.
ظهور "مختبرات الريادة" ومراكز الابتكار في الجامعات.
أُنشئت لتجسيد فلسفة دراكر في "التعلم بالمبادرة"، وتشجيع الطلبة على ابتكار حلول لمشاكل واقعية.
دمج ريادة الأعمال في كافة التخصصات.
بعد أن كانت حكرًا على طلاب الأعمال، أصبحت الريادة تُدرس لطلاب الهندسة، الفنون، العلوم الاجتماعية… لأن دراكر علّم أن الريادة "ليست مهنة، بل أسلوب حياة وتفكير".
رغم اتساع تأثيره عالميًا، إلا أن الجامعات العربية ما زالت في بداية الطريق نحو تبني فكر دراكر بشكل عميق. نلاحظ في بعض المؤسسات خطوات مشجعة:
برامج لريادة الأعمال بدأت تظهر ضمن المناهج.
حاضنات جامعية تُدعم من قبل القطاع الخاص.
مسابقات للمشاريع الناشئة تُشجع الطلاب على التفكير الريادي.
لكن في المقابل، تبقى هناك تحديات كبيرة:
الهيكل التعليمي الجامد.
لا تزال الكثير من المناهج تُدرّس بنفس الطريقة القديمة، دون دمج التجربة بالتفكير، أو النظر إلى الإدارة كفنّ إنساني.
ضعف ثقافة الفشل كأداة تعليمية.
بينما يُعدّ الخطأ في فلسفة دراكر خطوة نحو النضج، لا تزال بيئاتنا التعليمية ترى الفشل كوصمة.
التركيز على التحصيل لا على التطبيق.
رغم أهمية الشهادة، إلا أن دراكر كان يؤمن أن "الطالب الحقيقي هو من يسأل: ماذا سأفعل بما تعلّمت؟"
الطريق ليس صعبًا، لكنه يتطلب إرادة للتغيير، ورؤية إنسانية متجددة. يمكن للجامعات أن تستلهم فكر دراكر عبر:
إعادة النظر في أهداف التعليم الإداري.
غرس القيم الإنسانية في قلب التعليم الإداري، لا فقط تقنيات الإدارة.
ربط الدراسة بالمجتمع والأسواق المحلية.
تشجيع الطلاب على إطلاق مبادراتهم، بدعم نفسي لا فقط لوجستي.
في النهاية، أثر دراكر في التعليم لم يكن فقط في ما يُدرّس، بل في كيف يُدرّس ولماذا. لقد دعا إلى تعليم يطلق الفكر، لا يقيده، ويصنع قادة يغيرون واقعهم، لا يتكيفون معه. دعا إلى أن تكون الجامعة مصنعًا للمعنى، لا فقط للدرجات العلمية.
ليست الأفكار مجرد كلمات تُدوّن في الكتب، ولا المفكرون أولئك الذين تُعلّق صورهم في مداخل الجامعات، بل الفكر الحقيقي هو الذي يتحوّل إلى روح تعيش داخل الناس، تحرّكهم، تلهمهم، وتدفعهم لخلق واقع جديد. وهذا بالضبط ما فعله بيتر دراكر، المفكر الذي لم يكن يسعى إلى الشهرة، بل إلى أن يكون مفيدًا، فصار خالدًا.
ما تركه دراكر وراءه ليس فقط عشرات الكتب والمحاضرات، بل طريقة في النظر إلى العالم والعمل والحياة. لقد علّمنا أن المؤسسات ليست آلات، بل أدوات لتحقيق معنى. وأن الإدارة ليست عن الأوامر، بل عن الرؤية. وأن الريادة ليست لعبة نخبوية، بل سلوك إنساني يمكن أن يمارسه كل شخص يؤمن بالتغيير، مهما كان موقعه.
في عالم يتغير بوتيرة لم نعرفها من قبل، تظل أفكار دراكر حاضرة كمرشد هادئ يقول لنا:
"لا تخف من التغيير، بل خَطّط له. لا تنتظر الفرص، بل ابحث عنها. لا تسعَ فقط للنجاح، بل لصنع الأثر."
ربما لم يرَ دراكر ثورة التكنولوجيا كما نعيشها اليوم، ولم يعرف وسائل التواصل كما نستخدمها الآن، لكنه فهم شيئًا أعمق: أن الإنسان، برؤيته ووعيه، هو أصل كل تقدم، وكل تغيير، وكل ريادة. ولهذا، فإن فكره لا يُقاس بزمنه، بل بقدرته على الإلهام في كل زمان.
في كل مشروع يولد من فكرة بسيطة، في كل قائد يعيد تشكيل ثقافة مؤسسته، في كل طالب يُدهشه سؤال جديد... يعيش شيء من بيتر دراكر. لأنه لم يكتب لنا وصفةً جامدة، بل ترك لنا مفاتيح. مفاتيح تفتح أبوابًا ما كنا لنلاحظها لولا نوره.
فهل نحن مستعدون، حقًا، لاستخدام تلك المفاتيح؟
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!