في بيئة العمل، لا شيء يبدو أكثر اعتيادية من عقد اجتماع لمناقشة فكرة أو اتخاذ قرار. لكن ما الذي يحدث حين يتحول هذا الاجتماع إلى منبر خطابي مفتوح لا يعرف حدًا ولا يصغي لصدى كلماته؟ عندما يغيب التوازن بين الحديث والاستماع، تظهر ظاهرة يمكن تسميتها بـ"الإفراط في الكلام القيادي"—تلك الحالة التي يتحدث فيها المدير كثيرًا، ظنًّا منه أنه ملهم، بينما يغرق فريقه في صمت ثقيل... ليس صمت الاحترام، بل صمت الإرهاق.
المدير الذي لا يتوقف عن الكلام يتصور غالبًا أن سيل الكلمات يعني قوة، وأن السيطرة على وقت الاجتماع هي شكل من أشكال القيادة. لكنه لا يدرك أن فريقه لا يُصغي بل ينتظر، لا يتفاعل بل يعدّ اللحظات حتى ينتهي الخطاب.
ما يبدأ بفكرة بسيطة قد يتحوّل إلى حديث مطوّل يُرهق العقول، ويُبدّد التركيز، ويغرق القرار في بحر من التكرار والتشعب. فكلما كثرت الكلمات، قلّ الوضوح. وكلما علت النبرة، تضاءل الأثر.
القيادة ليست صوتًا مرتفعًا، ولا طوفانًا من الكلمات. إنها فعل ناضج يتجسد في إدراك اللحظة المناسبة للكلام، وتلك التي يُترك فيها المجال للآخرين. القائد الحقيقي هو من يُتقن فن الاستماع، لا من يُغرق من حوله في الضجيج.
الكلمة حين تُقال في وقتها وبلغة واضحة، قادرة على إحداث فرق. أما إن قيلت استعراضًا أو بلا حاجة، فإنها تفقد أثرها وتُجهد من يستمع إليها. الفرق اليوم لا تحتاج إلى مزيد من التوجيه، بل إلى مساحات تُشعرهم بأنهم يُشاركون، لا يُتلقّنون.
هناك لحظات في القيادة يكون فيها الصمت أبلغ من أي خطاب. القائد يصمت، لا لأنه يفتقر للكلام، بل لأنه يُدرك متى يُفسح المجال لفريقه ليفكر، ليخطئ، ليعبّر. الصمت، حين يأتي في موضعه، يشبه الحكمة التي تمنح الثقة وتحفّز على المشاركة.
الصمت لا يعني غياب الدور، بل وعيًا باللحظة ووزنها. القائد الفعّال لا يحتاج إلى كثرة الحديث ليُثبت حضوره، بل يوجّه بكلمة موزونة، ويُلهم بسكونه أكثر مما يُلهم بكلامه.
المدير الذي يعيد ذات الجمل، ويكرر الأفكار بصيغ متعددة، ويخلط بين الكاريزما والإلحاح، لا يدرك أنه يُضعف تأثير كلماته. ومع مرور الوقت، تبدأ الثقة بالتآكل. ليس لأن الفريق لا يحترمه، بل لأنهم لا يشعرون أنهم جزء من الحوار، بل جمهور في عرض لا ينتهي.
وهنا يتجلى الفرق بين القائد والمتحدث. الأول يُحدث فرقًا حتى في صمته، والثاني يُحدث ضجيجًا حتى في حضوره.
القيادة الحقيقية لا تكمن في ملء الفراغ بالكلمات، بل في خلق مساحة تُثمر المعنى. من يمنح الآخرين الثقة ليعبّروا عن أنفسهم، لا من يحتكر الحديث ليشعر بالقوة.
الكلام، وإن كان وسيلة تأثير، إلا أن الإفراط فيه يُفقده قيمته. أما الصمت في موضعه، فهو لغة القادة الذين يُدركون أن التأثير الحقيقي لا يأتي من طول الخطاب، بل من عمقه.
ليس كل من يتحدث كثيرًا، يملك شيئًا ذا قيمة. لكن من يُصغي بإخلاص، يعرف متى يتحدث ومتى يصمت... ومتى يكون لصمته صدى لا يُنسى.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!