Worx - Worx | Logo
BETA
Worx - فاس والعطور: التاريخ الذي لا يغيب

فاس والعطور: التاريخ الذي لا يغيب

في المغرب، حيث تختلط رائحة الأرض بندى الصباح، وحيث تشهد الجبال والوديان على حضارة عريقة، تقف مدينة فاس شامخةً بتاريخها وثقافتها. هذه المدينة التي عرفها العالم بمآذنها ومدارسها العتيقة، تخفي في زواياها قصة قلّ من يعرفها: قصة العطر، ذلك العبق الذي لم يكن يومًا مجرد زينة، بل كان رسالة من الزمن، ومفتاحًا لفهم إنسان عاش بالجمال، وارتبط بالحواس.

في فاس، لا يمر الزائر من سوقٍ أو حيٍّ قديم، إلا وتستقبله روائح تشبه القصص، تنبع من الأعشاب، والتوابل، والزهور، وتختلط برائحة الجلد المدبوغ، لتصنع تركيبة فريدة لا تشبه غيرها. إنها علاقة وثيقة بين العطر والمدينة، علاقة تشكّلت عبر القرون، وظلت شاهدة على إبداع الإنسان المغربي، وحرصه على تحويل البسيط إلى فنّ.

العطر في حضارة فاس: بين الذوق والروح

منذ نشأتها في القرن الثامن الميلادي، كانت فاس مركزًا للعلم والصناعة والحياة الثقافية. وبينما ازدهرت في مجالات الفقه والفلك والطب، لم تغفل عن الجانب الحسي من الحياة، فقد اهتم أهلها بالعطور وطرق تركيبها، وصارت جزءًا من حياتهم اليومية.

لم يكن العطر في فاس مجرد أداة للزينة، بل كان وسيلة للتطهر، وللترحيب بالضيوف، ولمرافقة المناسبات الخاصة. كانت العطور تدخل المساجد، وتُستخدم في تطييب البيوت، وتوضع في هدايا الزواج، وتُرشّ على ملابس الأطفال في الأعراس والمناسبات.

هذا الاهتمام لم يأتِ من فراغ، بل من فهم عميق لقيمة الحواس في صناعة الذوق، ومن احترام للمكان والزمان الذي يمر فيه الإنسان.

سوق العطّارين: القلب النابض للعطر في فاس

إذا أراد الزائر أن يتعرّف على علاقة فاس بالعطر، فعليه أن يبدأ من سوق العطّارين، أحد أقدم أسواق المدينة. يقع هذا السوق قرب جامعة القرويين، ويضم محلات صغيرة تُشبه الكنوز، تصطف فيها القوارير الزجاجية والزيوت العطرية والمواد الطبيعية القادمة من كل مكان.

في هذا السوق، لا يُباع العطر فقط، بل يُصنع ويُركّب أمام عينيك. فالعطّار يعرف كل عشبة وكل زيت، ويعرف خصائص كل رائحة. وهو لا يبيع المنتجات الجاهزة فقط، بل يركّب العطر بحسب الطلب، وبحسب المناسبة. يخلط زيت الورد بالعنبر، أو يمزج المسك بالعود، لتخرج منه رائحة تعبّر عن شخصية صاحبها.

هنا يتعلّم الإنسان أن العطر ليس مجرد رائحة جميلة، بل تجربة متكاملة، تحتاج إلى معرفة وصبر وحب.

الجلد والعطر: حكاية شراكة طويلة

من يزور مدينة فاس لا بد أن يشاهد مدابغها القديمة، وأشهرها مدبغة الشوارة. هناك، يعمل الحرفيون في أحواض حجرية، يعالجون الجلود بطريقة تقليدية تعود لقرون. وتُستخدم في هذه العملية مواد قوية الرائحة، مثل الجير وروث الطيور، مما يجعل الرائحة الناتجة عنها صعبة التحمل.

لكن أهل فاس، بإبداعهم المعروف، وجدوا في العطر حلاً لهذه المشكلة. فبدأوا بتعطير الجلود بعد الانتهاء من دباغتها، ليس فقط لإخفاء الرائحة، بل لمنحها طابعًا راقيًا. وهكذا، أصبح الجلد المعطّر من العلامات المميزة لصناعة الجلود الفاسية.

كانوا يضيفون ماء الورد إلى الجلد، أو يبخّرونه بالمسك والعنبر، ويجعلون من الحقائب والأحذية والقفازات قطعًا تحمل معها عبقًا لا يُنسى. ومن هنا، نشأت العلاقة المتينة بين العطر والجلد، وصار كلٌّ منهما يُكمّل الآخر.

العطارون: حُرّاس الرائحة وذاكرة المدينة

لم تكن صناعة العطر في فاس مجرد تجارة، بل كانت مهنة تُورّث، ينتقل سرّها من الأب إلى الابن. العطّار الفاسي لا يعتمد فقط على المواد، بل على إحساسه، وخبرته، وذاكرته.

لكل عطّار وصفاته الخاصة، وخلطاته التي لا يشاركها إلا مع من يثق به. وهو يعرف متى يقطف الزهرة، ومتى يجفّفها، وكيف يخلطها، وفي أي وقت تكتمل الرائحة. وبعض العطور تحتاج لأيام كي تنضج، وبعضها لشهور.

ولأن فاس مدينة الوفاء، حافظت هذه العائلات على مهنها رغم تطورات السوق، وظلت تقدّم العطر التقليدي بجانب الحديث، لتُثبت أن الأصالة لا تزول.

فاس اليوم: بين الماضي والابتكار

اليوم، وعلى الرغم من دخول العطور الحديثة والماركات العالمية إلى السوق المغربي، لا تزال فاس تحتفظ بهويتها العطرية. هناك من الشباب من بدأوا مشاريع صغيرة لإحياء العطر التقليدي، مستخدمين تقنيات جديدة، ولكن بروحٍ قديمة.

وتُقام في المدينة ورشات لتعليم تركيب العطور، ويُقبل عليها المغاربة والسياح على حدّ سواء. كما أن منتجات فاس من العطور والزيوت الطبيعية تُصدّر إلى الخارج، وتلقى اهتمامًا خاصًا في أوروبا والخليج.

في زوايا المدينة القديمة، لا يزال الناس يشترون ماء الزهر، ودهن الورد، ومسك الطهارة، ويستخدمونه في مناسباتهم، كما كان يفعل الأجداد.

خاتمة

في مدينة مثل فاس، لا تُقاس الأشياء بثمنها فقط، بل بقيمتها الروحية، وبقصتها. والعطر في فاس ليس منتجًا يُستهلك، بل رسالة حضارية تعبّر عن ذوق الإنسان، ونظرته للجمال، واحترامه للذاكرة.

في كل رائحة من روائحها، حكاية تروي الزمن. وفي كل قارورة صغيرة، تختبئ لحظة من لحظات الحب، أو الفرح، أو اللقاء.

هكذا تبقى فاس، المدينة التي جمعت بين الفكر والحرفة، وبين التراث والعطر، شاهدًا حيًا على حضارة تُصغي للحواس... وتحكي بالعطر.


محادثة

0 تعليقات

مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!

Worx - Worx
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!

لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!

المهارات في هذه المقالة
Worx © مجتمع ووركس - جميع الحقوق محفوظة
Worx