في لحظات الفشل أو التردد أو حتى الطموح، يظهر صوت خفي داخلنا يقول: "إما أن أنجح تمامًا، أو لا داعي للمحاولة أصلاً."
هذه ليست قوة عزيمة كما يظن البعض، بل هي إحدى أكثر العقليات استنزافًا للإنسان: عقلية "كل شيء أو لا شيء"، أو ما يُعرف في علم النفس بالتفكير الثنائي الجامد.
هذه العقلية لا ترى في الحياة إلا لونين: الأبيض أو الأسود، النجاح الكامل أو الفشل المطلق، الحب المثالي أو القطيعة التامة، وهي بذلك تخلق سجنًا داخليًا يُصعّب على الإنسان أن يتقدم، أو يرضى، أو يستمتع بالمحاولة.
أخطر ما في هذه العقلية أنها تجعل الكمال شرطًا لأي خطوة.
فإن لم تكن واثقًا أنك ستفعلها "كما يجب"، تفضل ألا تبدأ. إن لم تتمكن من أداء التمرين كاملًا، لا تذهب إلى النادي أصلًا. إن لم تستطع الالتزام بالنظام الغذائي مئة بالمئة، تتوقف تمامًا وتأكل دون وعي. وإن لم يكن مشروعك مثاليًا منذ اللحظة الأولى، تؤجله لأجل غير مسمّى.
تُصبح العثرة مبررًا للتوقف، لا فرصة للتعلّم.
بهذا التفكير، لا تترك لنفسك فرصة للنمو التدريجي، ولا تتقبل الهفوة، ولا تسمح بالتحسن الطبيعي.
عقلية "كل شيء أو لا شيء" لا تضر فقط بالإنجاز، بل تزرع شعورًا عميقًا بالذنب والعار والخذلان الذاتي.
حين ترى نفسك في خانة "الفاشل" لأنك لم تحقق النجاح الكامل، فإنك تقسو على ذاتك أكثر مما قد يفعل أي ناقد خارجي. ويبدأ الصوت الداخلي بالهمس: "أنت ضعيف، لا تلتزم، لا تستحق."
ومع التكرار، تنخفض ثقتك بنفسك، وتُصاب بما يسميه علماء النفس "شلل التوقعات المثالية".
الإنسان لا يُبنى بالكمال، بل بالتجربة، والخطأ، والتعديل. ومن لا يمنح نفسه الهامش الإنساني الطبيعي للخطأ… يعيش في صراع مستمر مع ذاته
لا تتوقف هذه العقلية عند الأهداف الفردية، بل تمتد إلى العلاقات.
فإما أن يكون الآخر "مثاليًا كما أريده"، أو أنه لا يستحق البقاء. إما أن نتفق تمامًا، أو لا نتحدث أبدًا. وهنا تتحوّل العلاقات إلى ساحة اختبارات، لا مساحة تفاهم.
تضيع صداقات، تُهدم علاقات حب، وتنقطع روابط عائلية… فقط لأن أحد الطرفين رأى خطأً فظنه خيانة، أو لحظة ضعف فاعتبرها نهاية.
الواقع أن لا أحد كامل، ولا علاقة دون مطبّات. لكن عقلية الأبيض والأسود لا تسمح بالرمادي، ولا تعرف كيف تُرمم، بل تُفضّل القطع التام.
من أراد أن يبدأ مشروعًا، أو يطور مهارة، أو يتعلّم شيئًا جديدًا، عليه أن يقبل بأن البداية ستكون غير مثالية.
لكن من يعيش عقلية "كل شيء أو لا شيء"، ينتظر الظروف المثالية، الخطة المحكمة، الأداء المذهل… وحين لا يجدها، يتراجع.
ولو أنه بدأ ولو بخطوة بسيطة، لكان اليوم في مكان مختلف تمامًا.
وهكذا، يؤجل، ثم ينسحب، ثم يلوم نفسه، ثم يعيد الدورة.
التحرر لا يعني الرضى بالقليل، بل القبول بالواقع كبداية للتحسين.
إليك بعض المفاتيح:
بدلًا من "إما أن ألتزم تمامًا أو لا"، قل: "سألتزم قدر ما أستطيع اليوم."
بدلًا من "إما أن يحبني كما أريد أو لا شيء"، قل: "سنتعلّم كيف نفهم بعضنا."
بدلًا من "مشروعي يجب أن يكون مثاليًا"، قل: "سأبدأ، وأتعلم من الطريق."
أحيانًا، المثالية عدوة الإنجاز. والمقاربة اللينة للحياة لا تعني الاستسلام، بل تعني أن نعيش بتسامح أكثر، ومرونة أعمق، وتقدير أكبر للمحاولة ذاتها، لا فقط للنتيجة.
عقلية "كل شيء أو لا شيء" قد تبدو في ظاهرها قوة… لكنها في حقيقتها صورة من صور الخوف.
الخوف من الفشل، من النقد، من خيبة الأمل.
والحياة ليست كلّها بيضاء أو سوداء. هناك دائمًا مجال للرمادي… وفيه نعيش وننمو ونتعلّم.
فأحيانًا، "القليل المستمر" أعظم من "الكامل المؤجل."
كن شجاعًا بما يكفي لتبدأ حتى لو لم تكن مستعدًا تمامًا، ورفيقًا بنفسك حين تتعثر، ومرنًا مع الحياة حين لا تعطيك كل ما تريد… بل بعضه فقط.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!