تخيل أنك تمشي في يوم عادي جدًا، لا يحمل أي شيء استثنائي، فقط ضوضاء المدينة المعتادة، بعض المواقف المزعجة، تأخُّر في المواصلات، وربما شخص يتحدث إليك بأسلوب غير محترم. لا شيء كارثي، ولكنه يكفي ليقلب مزاجك رأسًا على عقب. تشعر بالغضب، بالانزعاج، بشيء يخنق صدرك ولا تعرف كيف تشرحه. تعود إلى المنزل متعبًا لا من الجهد، بل من ردود فعلك المتكررة، من استنزافك العاطفي الذي صار عادةً لا مفر منها. وهنا، في لحظة صدق مع نفسك، تسأل: لماذا أسمح لهذه الأمور بأن تتحكم بي؟ هل هناك طريقة تجعلني أعيش في هذا العالم، بتقلباته، دون أن أنكسر من الداخل؟ الإجابة، وربما المفاجئة، قد تجدها في فلسفة قديمة تعود إلى آلاف السنين: الفلسفة الرواقية.
الرواقية ليست مجرد تأملات جافة كتبها فلاسفة على مر العصور، بل هي طريقة عيش، أسلوب في التفكير يعيد ترتيب علاقتك مع الحياة. أحد أعظم مفاهيم الرواقية هو هذا المفهوم البسيط العميق: "تحكّم فيما يمكنك التحكم فيه، وتقبّل ما لا يمكنك تغييره". هذه الفكرة التي قد تبدو عادية للوهلة الأولى، تحمل في داخلها قوة قادرة على تغيير مصيرك النفسي بالكامل. كم مرة في يومك تنزعج من أشياء خارجة عن إرادتك؟ من رأي الناس فيك، من سلوكهم، من تصرفات شركائك، من تقلبات السوق، من كلمة في تعليق على منشور في إنستغرام، من خبر سياسي، من مزاج شخص آخر؟ نحن نستهلك طاقتنا في محاولات غير واعية لتغيير ما لا يمكن تغييره، وننسى أن كل هذه الطاقة يمكن توجيهها إلى الداخل، إلى أنفسنا، إلى طريقة استجابتنا لهذه الأمور.
ماركوس أوريليوس، أحد أشهر الفلاسفة الرواقيين وكان في الوقت نفسه إمبراطورًا رومانيًا، كتب يومياته لنفسه، ليذكرها باستمرار بهذه الفكرة: “لو أن ما حدث لك كان خارجيًا، فلا يملك أن يؤذيك إلا بإذنك.” هذا يعني أن كل ما يحدث في العالم الخارجي لا يحمل معنىً في حد ذاته، نحن من نمنحه المعنى عبر طريقة تفكيرنا. حين يُهينك أحدهم، فإن الألم لا يأتي من كلماته، بل من تفسيرك لها، من أنك صدقتها، من أنك سمحت لها بأن تدخل إلى قلبك وتخدشه. أما لو نظرت إليها من زاوية أخرى، ربما كضعف من قائله، أو كشيء لا يعبر عنك، أو ببساطة كضوضاء لا تستحق ردًا، فإنك تحرر نفسك من الألم. ليس لأنك متبلد المشاعر، بل لأنك اخترت ألا تمنح هذه الكلمة القوة لتؤذيك.
في الفلسفة الرواقية، الغضب ليس خطيئة بقدر ما هو ضعف، ضعف في السيطرة على الذات، ضعف في إدارة التوقعات، ضعف في فهم الطبيعة البشرية. الشخص الرواقي لا يغضب من أخطاء الآخرين، لأنه يعرف أن البشر يخطئون، وأن بعضهم يجهل، وبعضهم تصرفه نتيجة ظروف لا يعلمها أحد. وهذا لا يعني أن الرواقي يستسلم للظلم أو يقبل بالإهانة، بل يعني أنه يفصل بين الفعل وردة الفعل. لا يجعل من غضبه ردًا آليًا، بل يستجيب من مكان هادئ داخله، يزن الأمور بعقلانية، ويتصرف بما يخدم سلامه الداخلي ومبادئه في الوقت نفسه.
الجميل في هذه الفلسفة أنها لا تطلب منك أن تصبح شخصًا خارقًا أو أن تنكر مشاعرك. على العكس، الرواقي يعترف بمشاعره، لكنه لا يسمح لها بأن تقوده. هو يرى نفسه كربّان سفينة وسط عاصفة: لا يستطيع تغيير اتجاه الرياح، لكنه يملك السيطرة على الدفّة. كل صباح، يبدأ يومه بسؤال: “ما هي الأمور التي قد تحدث اليوم؟” ويتوقع أن يواجه الغضب، الجهل، الأنانية، وربما الخيانة. لكنه لا ينتظر من العالم أن يكون مثاليًا، بل يتهيأ ليكون هو الشخص المتزن في وسط الفوضى. وبهذا، تقل صدماته، ويزداد اتزانه، وتتحول حياته إلى تمرين يومي على الحرية النفسية.
ربما تقول لنفسك الآن: “لكن هذا صعب، أنا إنسانة حساسة، أتأثر بسهولة، وهذه طبيعة لا يمكن تغييرها.” لكن الحقيقة أن الفلسفة الرواقية لا تطلب منك أن تنكر حساسيتك، بل أن تستخدمها بشكل ناضج. أن تعي أنك لست ضحية ظروفك، بل أنت مسؤولة عن كيفية تفاعلك معها. الرواقي لا يبحث عن الكمال، بل عن التحسُّن المستمر. يكفي أن تتذكري، في لحظة انزعاجك القادمة، أن لديك خيارًا: أن تشتعلي غضبًا أو أن تتنفس، تتراجع، وتفكر: “هل هذا الأمر يستحق أن أفقد سلامي لأجله؟”
إن أعظم ما تمنحك إياه الفلسفة الرواقية ليس اللا مبالاة، بل القوة. القوة الحقيقية لا تأتي من ردود الأفعال الحادة، بل من هدوءك أمام ما يستفز الآخرين. أن تبتسم حين يتوقع الناس منك الانفجار. أن تختار السلام حين يتوقع الآخرون الحرب. أن تردّ بلطف حين تتلقى القسوة. هذه ليست مثالية، بل تمرين يحتاج إلى وعي ومثابرة. وكل مرة تنجحين فيها، تصبحين أقوى، أكثر حكمة، وأكثر قربًا من ذاتك الحقيقية.
في النهاية، ستدركين أن الحياة ليست صراعًا دائمًا، بل مدرسة مستمرة. وأن كل موقف يزعجك هو درس جديد في الحرية الداخلية. وأنك لست مسؤولة عن الآخرين، بل فقط عن نفسك. حين تستوعبين هذه الفكرة، لن تغضبي أو تنزعجي مجددًا كما في السابق. ستصبحين تلك المرأة التي تمشي بثبات وسط الضجيج، تُقابل الصراخ بالسكينة، والفوضى بالبصيرة، وتعرف أن أعظم انتقام من كل ما يزعجك، هو أن تظلي بخير.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!